دراسات
إسلامية
تجديد الخطاب الديني
بقلم : فضيلة الشيخ
محمد عبد المجيد زيدان
لايخفى على أحد أن الإسلام دين الله تعالى للبشرية جمعاء، وأن
سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء بشرعة تامة وللعالمين جميعاً، وأنه مرسل
للثقلين الإنس والجن، ولا نبي بعده، كما لايخفى أن البشرية تطور من نفسها ولا تبقى
على حال واحدة، لذا لزم أن يكون في الأمة مجددون في كل عصر يأخذون بالأصلين الكتاب
والسنة ويجددون فكر الأمة ويقيسون ما استجد من أحداث على ما سبق، فإن لم يجدوا
اجتهدوا رأيهم ولم يقفوا مكتوفي الأيدي، آملين في ثواب الله تعالى مادامت نياتهم
صحيحة ومقاصدهم حسنة وإن أخطأوا في اجتهاداتهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»(1).
ولقد سبق في علم الله تعالى أن البشرية في كل قرن –
على الأقل – سوف تتطور من ناحية، وسوف تبعد عن الأصلين الكتاب والسنة من ناحية
أخرى – وهو الأعلم بمن خلق – لذا شاء سبحانه أن يبعث في
كل قرن مجددًا يجدد للأمة أمر دينها فيعود بها إلى الأصلين، ويجتهد لها فيما جد
واستحدث.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها»(2).
حقيقة
التجديد:
إن التجديد الذي نكتب عنه ليس المقصود به تغيير معالم الدين،
فالإسلام هو الدين الذي كتب الله عز وجل له البقاء وارتضاه للبشرية جمعاء من لدن
آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، وتمامه وكماله صفتان لازمتان له، كما قال
ربنا سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَـكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ المائدة: آية3.
فالدعوة إلى التجديد ليست مُوَجَّهَةً إلى الإسلام الذي هو دين
الله تعالى، إنما هي دعوة إلى أصحاب العقول وبالذات الدعاة –
الذين يدعون إلى الدين – إلى مراجعة أنفسهم في مدى فهمهم لكتاب الله واستمساكهم بشرع الله
وترتيب الأولويات، مما يجب عليهم فعله وما يجب أن يبدأوا به، وهذه المراجعة كما
ذكر الشيخ محمد الغزالي ضرورة ماسة:
«إن مراجعة تفكيرنا الديني ضرورة ماسة، ولا أعني بتاتاً رجوعاً عن
أصل قائم أو فرع ثابت فهذا والعياذ بالله ارتداد مقبوح، هناك فرق بين الرجوع
والمراجعة»(3).
ونعني بالمراجعة إعادة ترتيب عقل الداعية الذي بدوره يجدد للأمة
دينها ويبعث فيهم روح الإخلاص لله والعمل بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا
ينبغي أن ننسى أن «جهاز الدعوة هو سر خلود الرسالة الخاتمة؛ لأنه يجدد كيانها
ويصون حقائقها.. ولن يكتب لهذا الجهاز النجاح إلا إذا كان صورة حقيقية للرسالة
التي يدعو إليها»(4).
وبالجملة: «فإن الحديث مُوَجَّهٌ إلى فكر المسلمين وسلوكهم،
فالتجديد إذن تجديد لأمر الدين ومكانته وسلطانه وليس تجديدًا للدين نفسه»(5)،
والمسلمون في حاجة إلى هذا التجديد، وللتجديد في كل ميدان، ومن رحمة الله تعالى
أنه يبعث مجدداً على رأس كل مائة سنة كما سبق في الحديث.
التجديد
سنة من سنن الله في الكون:
التجديد سنة عامة في كل حي؛ إنسان أو حيوان أو نبات؛ فالأجسام
الحية تتجدد في كل مدة معلومة؛ فتفنى ذراتها التي لم تعد صالحة للبقاء؛ وينشأ
غيرها مما هو قابل للحياة؛ ويطرأ الموت على الأجسام فيمنع تجددها.
وثقافة الداعية وفقهه في حاجة إلى تجدد مستمر؛ لأن التجدد يكون في
المعقولات كما يكون في المحسوسات؛ فإذا كانت الأجسام الحية محتاجة إلى التجدد
لتحافظ على حياتها؛ فكذلك معنويات الأمة يجب أن تتجدد بتجدد حاجاتها؛ ولن تتجدد
المعنويات إلا بتجـدد خطاب الدعاة وتنوع ثقافاتهم؛ ولذلك كان الله سبحانه يرسل
الرسل الواحد إثر الواحد؛ حتى يجدد اللاحق معالم ما وضعه السابق مع زيادات تقتضيها
الحال وتدعو إليها الحاجة؛ وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرًا﴾.
التجديد
قاعدة إسلامية وليس بدعة:
وليس أدل على ذلك من الحديث السابق، «يبعث الله على رأس كل مائة
سنة من يجدد...» والتاريخ الإسلامي حافل بالمجددين من عصر التابعين إلى يومنا هذا،
فالحسن البصري وأبو حنيفة ومالك والشافعي مجددون حقيقيون، والشافعي جدد مذهبه مع اختلاف
المكان وعرف له مذهبان قديم وجديد، واستمرت الأمة تعطي وتتقدم على مدار تاريخها
حتى طغت الحياة المادية وقل المجددون ونام المسلمون في كثير من الميادين عن
الاجتهاد والإبداع(6)، «ولم يُعْنَوْا باكتساب العلوم الحديثة بل منعوا الأفكار الجديدة
أن تدخل منطقتهم. وكان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصاباً بالجدب العلمي
وشبه شلل فكري قد أخذه الإعياء والفتور واستولى عليه النعاس»(7).
في نفس الوقت كانت أوروبا «قد استيقظت من هجعتها الطويلة وهبت من
مرقدها مجنونةً تتدارك زمان الغفلة والجهل وتعدو إلى غايتها عدوًا بل تطير إليها
بكل جناح وتسخر قوى الطبيعة وتفضح أسرار الكون وتكشف عن بحار وقارات كانت مجهولة
وتفتح فتوحاً جديدةً في كل علم وفن وفي كل ناحية من نواحي الحياة»، وكانت النتيجة
هذه الحضارة التي غزت الفضاء وفجرت الذرة؛ لكنها لم تسعد البشرية؛ إذ أنها لم
تلتفت إلى الجانب الروحي ولم تربط المخلوق بخالقه، وهم معذورون؛ إذ ليس عندهم وحي
معصوم أو هدي مستنير، إنما يملك هذا المسلمون وحدهم وهم الذين نائمون؛ لأنهم هم
الذين قصروا في واجبهم حتى زاحمهم غيرهم على قيادة العالم.
من هنا لزم أن ننبه دعاة المسلمين إلى أن يستيقظوا ويوقظوا الأمة
من سباتها وأن يجددوا في أسلوب الدعوة ووسائلها لعلهم يستطيعون بإذن الله تعالى أن
يعيدوا للأمة مجدها وأن يصوبوا للناس مسارهم؛ لأن لله عبادا إذا أرادوا أرادولأن
الأمة بطبيعتها متدينة.
مسيرة
التجديد مستمرة:
نعم لن تقف مسيرة التجديد كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولن تعدم الأمة رجالاً أفذاذًا من أمثال الشعراوي والغزالي وأبي زهـرة ومحمـد عبده
ورشيد رضا.
وعصرنا الحديث يتطلب اكتشاف المواهب الدعــوية وإتاحة الفرصة لهم
لإعمال العقل وللنبوغ والتجديد، فنصنع منهم أمثال الأعلام السابقين.
ولذا فإن التجديد – الذي أصبح ضرورةً لها أهميتها الكبيرة في هذا العصر –
لا يكتفي بجلاء الصدأ الذي أحدثته العزلة المعرفية عن ثقافة العصر وشؤونه في عقل
الداعية؛ بل من الأجدى العمل على توسيع النطاق المعرفي للداعية في مرحلة إعداده
الجامعي؛ بمعنى ألا يكتفي الداعية بتخصصه في المواد الشرعية والعربية؛ بل ينبغي أن
تكون له دراسات في الأمور المتعلقة بالناس والحياة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع
وغيرها؛ مع إبراز عطاء الإسلام الحضاري فيها؛ لأن هناك شريحة لا يستهان بها من
الدعاة ليسوا على المستوى الثقافي الذي يؤهلهم للنهوض بمهمة الدفاع عن الإسلام ورد
العدوان عنه.
* * *
الهوامش:
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك وأبو داود في سننه.
(3)
علل وأدوية، الشيخ محمد الغزالي: 180.
(4)
علل وأدوية، الشيخ محمد الغزالي: 165.
(5)
د. أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، كتاب العربي، العدد
السابع بتصرف.
(6)
على المستوى العام وليس على المستوى الفردي؛ إذ كان ولايزال يوجد
من أبناء هذه الأمة المجددون والمبدعون في كل ميدان.
(7)
أبوالحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان - شوال
1433هـ = يوليو - سبتمبر 2012م ، العدد : 9-10 ، السنة : 36